لعل المفاجأة الكبرى في نظري هي ما حدث في المناطق الغامضة من الأيديولوجيا المتطرفة. ففي الأشهر والأسابيع التي سبقت غزو العراق، كنت قد كتبتُ كثيراً حول أيديولوجيات الشرق الأوسط، وبخاصة حول العقيدة السياسية الثورية التي يعبر عنها التيار الإسلامي الراديكالي. وحاولتُ أن أبين أن ذلك التيار يمثل فلسفة جديدة، وليس مجرد مجموعة من الأحكام والتصورات النمطية القديمة، وذلك على اعتبار أن هذه الأيديولوجيا، في صورها المختلفة والمتنوعة، تقوم على جذور محلية ودينية، تماماً كما تقول عن نفسها، ولكنها تستند في الوقت نفسه إلى الأفكار الشمولية التي سادت في أوروبا القرن العشرين. وأود أن يفهم قرائي أن قوة التيار الإسلامي الراديكالي، بجذوره الدينية والحديثة المتداخلة، هي أكبر -من الناحية الثقافية- مما قد يعتقده المراقبون السذج. لقد سبق لي أن أعلنت عن سعادتي من حيث المبدأ بفكرة إسقاط صدام حسين، تماماً مثلما كنت سعيداً بخلع نظام "طالبان" من السلطة. بيد أنني كنت أريد أن يفهم الجميع أن العمل العسكري لوحده لا يمكن أن يهزم أيديولوجيا مثل التيار الإسلامي الراديكالي، ولا يمكن أبداً أن يساهم بأكثر من 10% (هذا الرقم اخترعته على سبيل الشرح والتوضيح) في حل أكبر. وكنت قد شددت على هذه النقطة كثيراً في الأيام التي سبقت الحرب، ومع ذلك، فعليّ أن أقرّ اليوم بأن التيار الإسلامي الراديكالي، وبالرغم من كل ما كتبته عنه، قد أثبت في العديد من فروعه الراديكالية المتشددة والأكثر تشدداً، أنه أقوى مما كنت أتوقع. العديد من الناس يتبنون الافتراض المنطقي القائل بأنه إذا كانت الإيديولوجيات المتطرفة قد دخلت في السنوات الأخيرة نوعاً من العصر الذهبي، فإن الأخطاء الفادحة، والمتوقعة، التي ارتكبتها إدارة بوش في العراق هي المسؤولة عن ذلك. وهو كلام صحيح لا شك فيه، غير أن ذلك ليس التفسيرَ الوحيد. فقد أخذت شوكة الحركات المتطرفة تقوى منذ أكثر من ثلاثة عقود، وخلال هذه الفترة، جربت الولايات المتحدة كل شيء تقريباً من حيث السياسات. فقد كان رؤساؤنا شيطانيين (ريتشارد نيكسون)، وملائكيين (جيمي كارتر)، ومثقفين أغبياء (رونالد ريغان)، وواقعيين حذرين (جورج بوش الأب)، وجذابين على نحو رائع (بيل كلينتون)، وغير ذلك (جورج بوش الابن). وكانت سياسة كل رئيس تجاه الشرق الأوسط تتأثر بشخصيته وطباعه. وبخصوص صدام حسين مثلاً، جربت حكومتنا تقديم الدعم له (ريغان)، وشنت حرباً محدودة عليه (بوش الأب)، وفرضت عليه عقوبات وقصفته (كلينتون)، ثم أطاحت به (بوش الابن). غير أن كل واحدة من هذه السياسات تركت الشعب العراقي أسوأ حالاً مما كان عليه من قبل، حتى وإن كان الناجون المنكوبون يستطيعون هذه الأيام على الأقل التفكير، من تحت الأنقاض، في مستقبل أفضل، وإن كنت أشك في أن العديد منهم في مزاج وحال يسمحان له بذلك. فكل نكبة جديدة تصيب العراق هي بمثابة السماد الذي يزيد من خصوبة المنظمات المتطرفة المختلفة. وقد يوحي التسلسل الكامل للأحداث بأن أميركا محتم عليها القيام بالشيء الخطأ، وهو أمر مرجح جداً في الواقع، ولكنه يشير أيضاً إلى أن أميركا ليست نقطة ارتكاز الكون، وإلى أن الأيديولوجيات المتطرفة إنما ازدهرت بفضل قدرتها الخاصة على التكيف والاستمرار، وبكلمة واحدة: شجاعتها. ألاحظُ بشيء من الأسف أنني ربما قللت من شأن الأيديولوجيات المتطرفة من ناحية أخرى. فقبل خمس سنوات خلت، لا بد أن كل من كان مهتماً بشؤون الشرق الأوسط، سيتذكر بسهولة أن مثقفي المنطقة مروا على مدى قرن من الزمن عبر عدد من المراحل: ليبرالية، ماركسية، علمانية، تقليدية، قومية، مناهضة الإمبريالية، إلخ، تماماً على غرار المثقفين في أي مكان من العالم. وبالطبع، سيُبدي المثقفون الغربيون الذين ليست لديهم أية خلفية عن الشرق الأوسط، تضامناً قوياً مع نظرائهم المسلمين والشرق أوسطيين الذين يقفون في التيار اللبرالي التقدمي المسلم في عصرنا والذي يدافع عن حقوق الإنسان، والفكر العقلاني، والتسامح، وانفتاح المجتمع. بيد أن الأمور مختلفة اليوم. ففي منطقة الشرق الأوسط حالياً، يَتهم الإسلاميون الراديكاليون المتعددون المنتشون بنجاحهم، خصومهم ومنافسيهم الليبراليين بخيانة الحضارة الإسلامية، ويصفونهم بأنهم دمى في أيدي العدوان الصليبي أو الصهيوني. والغريب أن العديد من المثقفين في البلدان الغربية وافقوا مؤخراً على هذه الاتهامات السخيفة في إطار نسخة منقحة مناسبة للاستهلاك الغربي. بل حتى في البلدان الغربية، يعيش اليوم عدد من الليبراليين المسلمين يجهرون بمواقفهم تحت التهديدات بالاغتيال، ناهيك عن الإساءات وحملات التشويه التي يتعرضون لها. وليست "هرسي علي"، النائبة والكاتبة الصومالية الهولندية، سوى مثال على ذلك. وبدلاً من أن يحظوا بدعم زملائهم غير المسلمين، يجد الليبراليون المسلمون أنفسهم بشكل روتيني معرضين لانتقادات وهجومات المجلات الثقافية والجامعات التي تصفهم بأنهم انتزعوا من جذورهم، من العالم الإسلامي، أو يجدون أنفسهم متهمين بأنهم دمى بأيدي "المحافظين الجدد"، كما لو أن أي كاتب من مرجعية إسلامية يتخلف عن تأييد بعض المبادئ المناهضة للإمبريالية أو المناهضة للصهيونية من التيار الإسلامي، لا بد أنه غير قادر على التفكير والإتيان بأفكاره الخاصة. تطور مثبط ومؤشر آخر على قوة الإيديولوجيات المتطرفة! تطور مفاجئ آخر، يضاف إلى المفاجآت السيئة الأخرى. بول بيرمان ــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب وصحفي أميركي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"